الصحابة أمام صخرة الروشة وفي جُونية وجُبيل والقَلمون – الصحابة في لبنان (4)

الصحابة أمام صخرة الروشة وفي جُونية وجُبيل والقَلمون – الصحابة في لبنان (4)

ستكون سلسلتنا هذه “الصحابة في لبنان” نافذة إلى التاريخ المجهول المهمَّش، جُمِعتْ جزئياته الممتعة المدْهشة التي تُجيب على أسئلة كثيرة؛ منها: كيف وصل الإسلام إلى لبنان؟ هل دخل الصحابة والصحابيات إلى هذه الأرض؟ وما أسماؤهم؟ أين نامت التفاصيل الرائعة لتلك الحقبة المضيئة؟

بعد فتوحات الصحابة رضي الله عنهم للبقاع لم يعتمدوا في سَيرهم التقسيمات الحالية للمنطقة؛ فلبنان لم يكن في يوم من الأيام بحدوده الحالية، ولا كياناً مستقلاً بصفة إدارية سياسية، وإنما هو كما يقول ياقوت الحَمَوي في “معجم البلدان”: “اسم جبل مُطِلّ على حِمْص”. إنه سلسلة الجبال الغربية، دون الشرقية المسماة بـ”سَنِيْر”، ودون سهل بقاع العزيز الذي بينهما.

وأما هذه التقسيمات فقد جاءت على يد الأعداء المحتلتين “بريطانيا وفرنسا” بعد الحرب العالمية الأولى، لأسباب لا تخفى أهمها: تجزئة العالم الإسلامي لإضعافه، وابتداع كيان مضطرب يتيح لهم التحكم به والتدخل في المنطقة تحت ذريعة حماية الموارنة الذين أَعطَوهم الحُكم والامتيازات. وإنما قَدِم الكثير منهم إلى جبل لبنان مع البطريرك يوحنا مارون “بطل القومية المارونية” كما يلقبه فيليب حتي، قَدِموا سنة 694م بعد فتوحات المسلمين بـ60سنة هرباً من مجازر إخوانهم النصارى اليعاقبة واضطهاد بيزنطية وكنيستها، بناء على الاختلاف في عدد “طبائع ومشيئات” سيدنا المسيح المؤلَّه عندهم(1)!!

فالذي كان يتحكم في ترتيب سَير فتوحات الشام هي الاعتبارات العسكرية؛ مِن صَدٍّ استباقيٍّ لهجوم، أو اغتنام فرصة ضعف العدو وانهيار معنوياته، أو غفلته. لذا لم تفتح بيروت بعد البقاع مباشرة.

استخلف أبو عبيدة يزيدَ بن أبي سفيان أميراً على دمشق الشام لِيقيم عدالة القانون الإسلامي ويستكمل فتح المساحات الباقية منها. وفي “فتوح البلدان” للبلاذري: “أن يزيدَ أتى بعد فتح مدينة دمشق صيدا وعرْقة وجبيل وبيروت وهي سواحل وعلى مقدمته أخوه معاوية رضي الله عنهما ففتحها فتحًا يسيرًا، وجَلاَ كثيرًا من أهلها، وتولى فتح عرقة معاويةُ نفسه في ولاية يزيد‏.‏

ثم إن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر بن الخطاب أو أول خلافة عثمان بن عفان فقَصد لهم معاويةُ رضي الله عنهم حتى فتحها ثم رَمَّها وشَحَنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع‏”.‏

هذا النص للبلاذري هو كالدُّرَّة اليتيمة في كتب التاريخ حول الفتح الإسلامي الأول لبيروت، حيث يكاد لا يُذكر شيء من ذلك في كتب التاريخ الأخرى؛ مثل تاريخ الطبري أو تاريخ دمشق أو البداية والنهاية رغم إيرادهم لتفاصيل فتح مدن أخرى. لذا اعتمد كثير من المؤرخين بعد البلاذري عليه.

وممن اعتمد عليه وفسَّر سبب ذلك التأخر المؤرخ فيليب حتي فقال: “والواقع أنه كان لِصُوْر ولِعَكّا من الشأن في أوائل العهد العربي ما لم يكن لبيروت مثله”. وقال أيضاً: “ولكن العرب لم يتعرّضوا لِمدن الساحل؛ لا في فلسطين ولا في لبنان لأن هذه المدن كانت تلقى المدد من الروم بحراً، فإن السيادة البحرية آنذاك كانت في يدهم. لذلك ظلت هذه المدن بعض الوقت خارج منطقة الفتوحات العربية.

ولكن لم يمضِ زمن طويل حتى سقطت جميعها الواحدة تلو الأخرى -وبدون أيّة مقاومة- في يد معاوية ويزيد. فإن بيروت سقطت عام 635م”.

وقد أشار فيليب حتي في السياق إلى أسباب سهولة فتح بيروت والمنطقة؛ نختار منها:

  • 1. فداحة الضرائب التي كانت الدولتان الفارسية والبيزنطية تفرضها.
  • 2. الصراع الذي دام قروناً بين فارس وبيزنطية.
  • 3. الانقسام العقائدي بين مختلف الكنائس المسيحية.
  • 4. كون الغزاة أشداء ذوي بأس ونَخْوة، يهزؤون بالموت بل يَعُدُّونه ثواباً.
  • 5. كون الإسلام شعارَهم في الحرب، والقوةَ التي توحِّد قلوبهم.
  • 6. الزلازل: “بين 551 و555 وقعت سلسلة من الزلازل العنيفة التي خربت المدن اللبنانية الساحلية تخريباً يكاد يكون كاملاً ولا سيما مدينة بيروت. وذُكِر أن ما يقرب من 30 ألف نسمة من سكان بيروت لاقوا حتفهم، وهرب الباقون”(2).

وساق حتي أسباباً أخرى فيها مبالغة وتحريف وتناقض مع اعترافه هو بالنُّقلة العجيبة التي حققها النبي ﷺ للعَرَب!

وأما المؤرخ طه الولي فيقول: “في سنة 16هـ =637م دخلت القوات العسكرية الإسلامية مدينة بيروت وفتحتها فتحاً يسيراً.

لم تكن بيروت عندما دخلها المسلمون لأول مرة ذات شأن أو أهمية، سواء في عدد سكانها أو عمرانها. كانت بيوتها القليلة المتواضعة متناثرة بين بقايا الأنقاض التي تخلّفت عن الزلازل التي دمرتها وأحرقتها عن آخرها…” (3).

وصارت بيروت مركزاً للرباط وحماية حدود دولة الإسلام؛ فقدم إليها أبو الدرداء وسَلْمان الفارسي وغيرهما من الصحابة والتابعين كإمام الشام الأوزاعي رحمه الله تعالى. وقد تطورت بيروت تحت الحكم الإسلامي إدارياً وسياسياً واجتماعياً… كما هو مفصل في كتب مؤرخ بيروت المحروسة أ.د. حسان حلاق.

فكلما وقفت أمام صخرة الروشة تَذَكَّر أن معاوية وجيش الصحابة والتابعين رضي الله عنهم مروا من هناك فاتحين، وأقاموا عليها الدين منذ 1415 سنة، تاركين الأمانة في أعناقنا.

وبعد بيروت توجّه الجيش الإسلامي مروراً بجُونية التي صارت في ظل الإسلام موطناً للعلماء والعبّاد! وصولاً إلى جُبيل، والقلمون، وعرْقة قرب وادي الجاموس وببنين في عكار. ففتح الساحل شمالاً (ما عدا طرابلس لقوة تحصيناتها). ولكن من القائد الفتى الذي فُتحتْ مِصفاة البداوي على يديه؟ الجواب في حلقتنا القادمة بإذن الله.

====

1. انظر كتاب: قراءة إسلامية في تاريخ لبنان والمنطقة من الفتح الإسلامي ونشأة المارونية حتى سنة 1840م، د.محمد ضناوي، ص66 نقلاً عن المطران يوسف الدبس وغيره.

2. النقول الثلاثة من: لبنان في التاريخ، فيليب حتي، ص296، وص293، وص283،290،291.

3. مساجد بيروت، طه الولي، ص13،14.

بقلم: الشيخ يوسف القادري

اترك ردًا

رجاء أدخل الأرقام الظاهرة للتأكد من أنك لست روبوت *